مع دقات الساعة… توقّف قطار السابعة إلا الربع، مستقراً على مرفأ المدينة الساحلية الإيطالية معلنا وصوله بداية رحلة الليل، فانطلقت موجة المغادرين دفعة واحدة، يسابقون خطواتهم، يركضون نحو قطارٍ آخر، متقدمٍ بعشر دقائق عن موعد وصولهم، كأنهم يهربون من شيءٍ ما، أو ربما يطاردون شيئاً لا يريد لهم اللحاق به.
أنا، على الجانب الآخر، أراقب المشهد من مقهى المحطة، أطلّ على الرصيف الذي يضجّ بالبشر كلٌّ منهم محملٌ بهمٍّ، مشغولٌ بقضية، يلهث خلف وجهةٍ ما، منزلٍ ينتظره، عائلةٍ تهمّه، حياةٍ لا يعرفها أحد إلا بقدر ما يسمح هو للآخرين برؤيته. القهوة صامدة بين أصابعي، تنتظر بصبرٍ أن أرتشفها هذا الكوب الثالث. الكوبان السابقان لم يكفياني، ولم يتركا إلا بقايا من طالع الفنجان لكنه لم يكن يحمل أيّ جديد ! لا علامات، لا إشارات، لا مستقبل مرسوم في ترسّبات البن ! مجرد مساحة سوداء، ثابتة، صامتة، لا تتحرك مهما بدّلت المقهى، ولا تتغير مهما غيّرت المدينة، ولا تبوح بأي سرٍّ مهما انتظرت !
اعيد نظري للرصيف في الأسفل، أتخيّل نفسي هناك وسط الحشد المتدافع نحو القطار حقيبتي تتمايل على كتفي والاخرى أجرها بيدي تدهسها أرجل المارة هنا وهناك، غبار المحطة يتشابك مع خصلات شعري، نظّاراتي الشمسية تكاد تسقط من على أنفي بفعل العرق الذي يتصبب من جبيني ! تُرى، لو كنت هناك، هل كنت سأكون شخصاً عادياً؟ بسيطاً؟ جزءاً من هذا التدافع المألوف؟ أم كنت سأحمل عقلي المتضخم بأسئلة الكون، وأمضي به إلى مدينةٍ أخرى، لا تسعه أيضا !؟
لو كنتُ هناك، هل كنت سأعيش حياةً شاقّة، يسرقها العمل ولا يترك لي وقتاً للتفكير؟ أم كنت سأحمل ذات الهموم التي تطاردني الآن، وأقضي عمري في محاولات مريرة لفكّ شفرة الوجود؟ هل كنت سأحظى بحبّ امرأةٍ عادية، نعيش معاً في منزلٍ دافئ، تفتح لي الباب عند عودتي كل مساء، تستقبلني بالقبلات والعناق، تنزع معطفي، تخبرني عن تفاصيل يومها المتكرر وتهمس لي بحماسةٍ خافتة أن جارتنا حامل في شهرها الثالث، وأنها علمت بالأمر اليوم؟
هل كنت سأكون سعيداً؟ والأهم هل كنت لأكون واقعياً؟ ثابتاً ومتجذّراً؟ لا أتمنى أن أكون شخصاً آخر، ولا أهرب نحو حيوات الآخرين؟ وكل الأهم، هل كنت سأتوقف عن إدمان الذاكرة؟
اتشرب فنجاني، تمرّ الأسماء في رأسي وجوهٌ أعرفها وأخرى لم ألتقِ بها بعد؛ ميلاني، نايومي، باولا، سيدروا… وأسماء أخرى لم أمنحها حروفاً بعد، لكنها هناك، في الأسفل، تعيش حكاياتٍ نسجها لها عقلي وتمضي داخل عالمٍ لا يخصّها لكنه استعارها للحظات.
أتابع المارّة، ممعناَ بالتحديق والكتاب يروي نفسه داخل رأسي، على إيقاع أنفاس القطار الثقيلة … كل هؤلاء المغادرين، يهربون مني… وإلى أين؟ إلى حياة لا أستطيع تخيّل رتابتها، إلى واقعٍ لا مكان فيه للأفكار الثقيلة والأسئلة التي لا إجابة لها،،،
يفرّون من الخيال،
يعلنون التوبة من التيه،
ينطلقون نحو حرّيةٍ لا أفهمها.
وأنا؟ أراقبهم،
وأتساءل،
هل يتطوع احدهم، هل يأخذونني معهم؟
إلى حياةٍ أخرى،
مجهولة !
لا يمكنني التنبؤ بوقعها..!
وعلى صدى القطار معلنا موعد الانطلاق، انطلقوا جميعاً،
انطلقوا مني…!
أفلتوا من ذاكرتي،
نحو عدمٍ أكثر رحمة…~